بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 14 أغسطس 2014

الطبيب المقدس!

                  ترى ما الذي يدعو لوجود مزار ديني لطبيب الماني في طوكيو ؟ سألت نفسي هذا السؤال متعجبا ،وأنا أقف امام المزار الصغير الواقع إلى الجنوب من وسط طوكيو . وازدادت دهشتي أكثر لكونه مزارا خاصا بديانة الشنتو ( الشنتوية )، وهو ما دل عليه وجود تمثال لطائر كبير، وباقي الرموز الآخرى الدالة على الحياة الخالدة عند اليابانيين.

الألوهية في ديانة الشنتو:


          قد يبدو الأمر عاديا ، غير لافتا للانتباه لمن لا يعرفون ديانة الشنتو، أما الحقيقة فهذا أمر استثنائي جدا، حتى أنه يصعب تصديقه للوهلة الأولى . ويرجع هذا لكون " الشنتوية " ديانة يابانية خالصة تخص الشعب الياباني بنفسه كعنصر متفرد، وليس لها أي علاقة بكل ما ليس يابانيا حتى النخاع من البشر.

        وتدعى هذه الديانة في اللغة اليابانية القحة باسم "كامي نو ميتشى" (Kami no michi )، وتحتل كلمة "كامي" موقع الصدارة في هذه الديانة ، وتعنى " الوهية " . وكل من يقام له مزار شنتوي ، يعتبر مقدسا ، مما يعني أنه يمكن التقرب إليه بتقديم الأعطية واقامة طقوس العبادة الخاصة، سواء للحصول على منفعة أو للوقاية من الضرر. وفي العادة يكفي أن تحتوي المزارات المذكورة بعضا من الشيء ذو القدسية فقط ، وليس كله كاملا.

... و اذا ، فقد كنت وقتها واقفاً أمام مزار " طبيب مقدس " لاتباع ديانة الشنتو، رغم أنه كان مسيحيا ، ولم يكن حتى يابانيا اصلاً! .... الم يكن لدي كل الحق في دهشتي الكبيرة، و كل علامات الاستغراب التي ارتسمت على وجهي آنذاك ، بينما كان رفيقي الياباني يتامل تعابير وجهي ، منتظرا أن أقول شيئا مفهوما .

الاعجاب الياباني بكوخ:


            - إذا فقد تجاوز اعجابكم بـ روبرت كوخ ( R. Koch ) كل حد ، لدرجة أن أقمتم له مزارا في طوكيو طبقا لديانتكم الخاصة. قلت مرتبكا.

           - انه " كوخ " ياعزيزي ... . قال رفيقي بتأدب بالغ ، وزم شفتيه بطريقة محاربي الساموراي للتأكيد. ثم لم يلبث أن مطهما برقة، وأردف هامسا كمن يفشي سرا خطيرا : " انه تقدير لم يحصل عليه أي أجنبي آخر في تاريخ بلدنا"

كان مرافقي يدري أني – كطبيب - أعرف الكثير عن " كوخ " هذا ، ليس كمكتشف لميكروبات الجمرة الخبيثة و السل والكوليرا، أو لحصوله على جائزة نوبل للطب فحسب، بل لأني اخبرته ذات يوم بعض الأشياء الآخرى عن جاري "روبرت كوخ". في تلك المرة اتسعت عينا رفيقي بشدة وهو يقاطع حديثي صائحا " جارك ... كوخ! " . وقتها أخبرته ضاحكا أني أدعوه " جاري "، منذ أن اكتشفت ذات مرة ، اني أقطن على بعد امتار قليلة ، من أحد مساكنه السابقة.

غير أن حصيلة معلوماتي ، لم تسعفني في الوصول إلى سر تقديس اليابانيون لكوخ. وفي الحقيقة ، لم اتذكر أن "جاري" هذا ، كان قد عمل في اليابان، أو أن لهذا البلد حكاية خاصة مع احدى الامراض التي اكتشفها هذا الطبيب الفذ .

في النهاية طرحت افكاري بشكل موجز ، وتبعتها بالسؤال ... تري هل خانتني الذاكرة ؟ .... كان على رفيقي الاجابة ، فصمت لبرهة ، و انزلق جفناه فغطيا نصفي عينيه تقريبا، فبدا كما لو أنه مريض اعيد إلى الحياة فجاة، بعد عملية انعاش رقيقة.

           - لا .... قال رفيقي ، ... بل كل ما في الامر قصة علاقة انسانية جميلة.

رفاق إلى الابد ! :

          القصة عرفتها بالتفصيل فيما بعد ، بعد مطالعتي ما ذكره عنها الاستاذ الالماني " بيرند فيرنر" ( B. Werner ) في أحد كتبه . فرغم أن "كوخ " لم يعمل في اليابان عليىالاطلاق - كما ذكر الكتاب - إلا أن تقدير اليابانيين له يرجع إلى تفضله بتعليم الكثير من الأطباء اليابانيين أثناء رئاسته لمؤسسة القيصر فيلهلم الطبية في برلين ، عندما كانت اليابان لا تزال بلدا متخلفا، أخذ لتوه يحبو علي بساط الطب الحديث.

           وكما ذكر الاستاذ " فيرنر " فقد أقيم مزار "روبرت كوخ " بناء على أمر " شيباسابورو كيتاساتو" (S. Kitasato)، الذي عمل استاذاً في الجامعة التي تحمل اسمه في طوكيو حاليا. وكان هذا الياباني قد قدم إلى المانيا سنه 1886 ليدرس عند "كوخ" . ولسبب أو لآخر، تعضدت بين الاثنين صداقه تشبه علاقه الأب بابنه خلال السنوات الخمسة التي قضاها " كيتاساتو" في دراسته . وفى سنه 1892 ، غادر هذا الآخير المانيا عائدا إلى وطنه ليصبح عالماً مشهوراً ، بعد اكتشافه الجرثومة المسببة لمرض الطاعون .

         و في سنة 1908 تمكن " كوخ " من زيارة اليابان ، وقضى هناك عدة اسابيع، في ضيافة تلميذه النجيب، كما تمتع بالحفاوة البالغة التي أسبغها عليه هذا الأخير. و لشدة اعجاب التلميذ باستاذه ، حرص على الاحتفاظ بالشعر المتساقط من استاذه في أحد صالونات الحلاقة اليابانية، رغم عدم فهم " كوخ " للمغزى العميق والغير معتاد، الكامن وراء هذا العمل .

          وبعد مرور عامين على الزيارة ، تناهت الأخبار العاجلة إلى بلاد الشمس المشرقة بأن " كوخ " ذهب للقاء ربه، فامر " كيتاساتو" على الفور ، باقامة مزار لاستاذه وضع فيه الشعر الذى جمعه من قبل ، وذلك وفقا لطقوس الديانة الشنتويه الخاصة بالمقدسين. وبعد وفاة " كيتاساتو " سنه 1931 ، أقام له تلامذته هو الآخر مزارا بجانب المزار السابق.

          وحدث أثناء الحرب العالمية الثانية ، أن احترق مثوي " كيتاساتو " نتيجة لانفجار قنبلة . ولهذا نقلت ، بعد نهاية الحرب، بقايا الطبيب لتدفن في مزار "كوخ" ، لكي يرتاح التلميذ قرب استاذه جنبا لجنب. و كان هذا قدرا مدهشا حقا ، فقد سبق لكيتاساتو أن قال في الخطاب التأبيني الذي القاه يوم وفاة استاذه : " سيدي العظيم روبرت كوخ، انك ستظل معي - في فؤادي - إلى الابد" !

د. أحمد عبد السلام بن طاهر
.Dr.med. Ahmed A. Ben Taher
استشاري أول طب الروماتيزم. سنة التخصص 1990.
متحصل على شهادة البورد وعلى شهادة الدكتوراة .PhD  في طب الروماتيزم
شارك في تاليف مرجع الروماتيزم ألالماني الصادر سنة 2001 و 2008
للاستشارات عن طريق الواتس اب والتيليغرام : 0928665810 (ليبيا) 
https://aliada2.blogspot.com/


___________________________________________________ 
 Copyright© 2014 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher 
 حقوق النشر محفوظة © 2014 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق