بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 أغسطس 2014

معالم الطب الفرعوني

       لقد مد اكتشاف برديات الفراعنة الطبية، الخبراء بثروة من المعلومات القيمة، التي أنارت لهم السبيل للولوج ألى مجاهل الطب المصري القديم الذي مورس لمدة تزيد على الثلاثة الالاف عام. وهكذا تيسر لنا استشفاف الآفاق التي وصل إليها هذا الطب وما تركه من أثر في فن التداوي عند الحضارات اللاحقة، ومن بينها حضارتنا العربية في عصرها الذهبي. وبالطبع ما كان لهذا كله أن يتحقق لولا ابتكار المصريين للكتابة الهيروغليفية، التي كانت الوعاء المناسب، الذي نقل عن طريقه المصريون علومهم الينا. ويعتقد " بول غاليونجي و زينب الدواخلي"، في كتابهما " الحضارة الطبية في مصر القديمة" انه لولا اختراع المصريين للكتابة وطريقة تسجيلها على لفائف أوراق البردي، لما تمكنوا من الحفاظ على خبرتهم الطبية وتطويرها.

      ويبدو من دراسة المدونات المذكورة، خلط قدماء المصريين لممارسة الطب مع معتقداتهم الدينية، حيث اعتقدوا بان بعض الأمراض الداخلية تنشا من غضب الآلهة، أو نتيجة لتأثير الأرواح الشريرة وتقمصها لجسد المريض. ولهذا السبب كانت محاولة الشفاء من أعراض هذه الأمراض تقوم على استخدام التعاويذ الدينية في المقام الأول. أما استخدام العلاج الدوائي فقد حل في المرتبة الثانية، وكان الهدف منه علاج الأضرار التي نشأت من دخول الأرواح الشريرة جسد المريض. أما في حالة علاج الأمراض الظاهرة، مثل الكسور والجروح وغيرها، فلقد اعتمدوا على استخدام الخبرة والمنطق في المقام الأول . وكمثال على المزج بين التعاويذ الدينية والدواء في علاج المرض عند المصريين القدامى، نقتبس عن  " جان شارل سورينا "  في كتابه "تاريخ الطب"، ما جاء في بردية ايبرز حول علاج الثعلبة ( مرض يسبب سقوط شعر الراس علي هيئة دوائر ): " التعزيمة: أنت المضيء الذي لا تتحرك من مكانك، الذي يحارب الخطيئة، آتون ( الإله ) نجني مما أصاب قمة الراس. تتلى هذه التعزيمة على الصلصال الأصفر، والحنظل، والهيصم، وحبوب تسمي عين السماء، والعسل ثم تسحق معا ويدهن بها الراس. ".

ولقد عرف أبناء مصر القدامى الكثير من خواص النباتات والمعادن العلاجية، و استخدموا بعض أجزاء جسم الحيوان كعلاج، أما المركبات المعدنية فلم يستخدموها الا في النزر اليسير من وصفاتهم. ونتعرف في وصفاتهم الطبية على البصل والثوم والشبت والخشخاش المخدر، ونباتات النعناع والصبر والمر والمستكي والخروع و ست الحسن والعنب والتوت والكمون وحبوب الكسبرة والصعتر وغيرها. وقد استمر الاعتماد على هذه النباتات خلال القرون التالية ، ولا تزال تستخدم في الكثير من وصفات الطب الشعبي في وقتنا الحاضر. أما الوصفات التي اعتمدت على مكونات حيوانية، فقد اشتملت أشياء متفرقة كثيرة: فمن مخ السمك، الي لبن الحمارة، ومن شعر القطط حتى مرارة السلحفاة ودم الغزال والخفاش، وغيرها. ويبدوا أنه كان للعسل تقدير خاص فاق استخداماته الطبية المتكررة في علاج الكثير من الأمراض الباطنية والجلدية، وهو الأمر الذي يمكن تبينه مما ورد في احدي الرقيات المدونة في "بردية هيرست" : "... تعال أيها العسل تعال مسرعا كالجراد... بسرعة السفينة فيك الشفاء ".

وقد اعتقد المصريون القدامي بشدة في وجود علاقة بين اضطراب الهضم و الإصابة ببعض الأمراض. ويبدوا ان هذا الاعتقاد هو الذي كان يقف وراء إكثارهم من النصح باستخدام المسهلات مثل ثمار التين المجففة، وزيت الخروع لعلاج الكثير من الامراض. وقد عرف المصريون طرقا متعددة لتعاطي الدواء، اشتملت على المراهم، والغرغرات، و التحاميل وقطرات العيون و استنشاق الابخرة، بالاضافة طبعاً ، لتعاطي الدواء عن طريق الفم. ويذكر "هاريس" (JR Harris) في كتابه "وصية مصر"، أن من أهم ملامح الطب المصري ثراء ، اشتماله على اطول تسجيل لاستعمال العقاقير المختلفة التي انتقلت بعد ذلك الى النصوص العبرية والسريانية والفارسية والإغريقية والعربية. أما الباحث " كورليتو"( Corleto ) فيقول بان الوصفات الطبية الفرعونية تحتل مكانا استثنائيا من حيث تنوعها وغناها مقارنة بطب كل الشعوب القديمة الاخرى .

و يخبرنا المؤرخ اليوناني هيرودوت ( Herodotus ) الذي زار مصر حوالي سنة 457 ق.م، عن وجود أخصائيين في أمراض البطن وأمراض النساء و أمراض العين في بلاد الأهرامات انذاك . و يبدوا لنا من هذا، أن المصريين القدامى كانوا قد أدركوا ، في وقت مبكر، أهمية التخصص في ممارسة الطب، وهو الأمر الذي ربما ساعدهم في تطوير طبهم للمستوى الرفيع الذي تخبرنا به البرديات.

ولقد ترك لنا أطباء الفراعنة وصفاً دقيقاُ لبعض الأمراض، مما يدل على معرفتهم الجيدة بها. ويبدو انهم كانوا قد حازوا على خبرة عملية جيدة، في مجال علاج الجروح والكسور وخلع المفاصل ووقف النزيف والتضميد وعمليات الختان. غير أنهم لم يقوموا إلا ببعض العمليات الجراحية البسيطة والسطحية نظرا لضحالة معرفتهم بالتشريح، هذا إذا استثنينا عملية ثقب الجمجمة (trepanning ). وكانت عملية الثقب هذه، تجرى أحيانا كعلاج لبعض الأمراض العصبية والنفسية مثل الصرع والعته، التي كانوا يعتقدون بانها ناتجة عن دخول الأرواح الشريرة الى راس المريض. ومن المعروف أن المصريين هم أول من اكتشف علاقة النبض الذي يقاس عند المعصم بضربات القلب.

___________________________________________________
 Copyright© 2014 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
 حقوق النشر محفوظة © 2014 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق